Block title
Block content

تونس: لا حل لأزمة الديون إلا من خلال سياسات مالية ديمقراطية وتشاركية  

Block title
Block content

 

تضغط أزمة الديون في تونس على ميزانية الدولة وتعرض البلاد لمخاطر مالية جمة من أهمها نجد عدم القدرة على سداد أقساط الدائنين الدوليين التي تبلغ قيمتها 4 مليار دولار للنصف الثاني من سنة 2024، ولكن الأدهى والأمر هي آثار هيكلة تلك الديون واشتراطاتها وإعطاء ميزانية الدولة الأولوية لخدمة الدين على حساب الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للأشخاص والمجموعات الاجتماعية المختلفة، عبر التقشف في النفقات الاجتماعية للدولة. 

 يأتي ذلك في ظل حالة من الركود الاقتصادي بسبب تراجع الاستهلاك، ونقص السيولة المالية في الأسواق، ومزاحمة الدولة لحصة المواطنين والمستثمرين الخواص من القروض الداخلية الموجهة للاستهلاك والاستثمار. وهو ما صعّب حسب خبراء حصول انتعاشه اقتصادية وحركية إنتاجية عالية وتحقيق قيمة مضافة حقيقية بعد أكثر من عقدين من الجمود والنمو البطيء.  

وارتفعت قيمة إجمالي ديون تونس الخارجية بشكل مخيف خلال السنوات الأخيرة، وتحديدا منذ 2016، تاريخ الحصول على آخر قرض من صندوق النقد الدولي لتصل لـ40 مليار دولار ما يقابله بنسبة 90 بالمائة1 من قيمة الناتج المحلي الإجمالي لتونس. 

هذه المؤشرات الضاغطة التي عرفها الاقتصاد التونسي جعلت وكالة فيتش الائتمانية2 تخفض من تصنيف تونس "سي سي سي سلبي" CCC- وهو ما يعني وجود مخاطر تمويل عالية، واحتياطيات مرنة.  

كما يعكس تصنيف تونس "CCC-" تزايد عدم اليقين بشأن قدرة الحكومة على تلبية احتياجات تمويل الميزانية أو سداد أقساط قروضها الخارجية لسنتي 2024 و2025. وينجم كذلك عن العجز المستمر في الميزانية، وزيادة آجال استحقاق الديون المحلية والخارجية، بنحو 10% من الناتج المحلي الإجمالي سنويا في الفترة 2024-2025، بما في ذلك سداد سندات اليورو (850 مليون يورو في فيفري / فبراير 2024، ومليار دولار أمريكي في جانفي / يناير 2025).  

ولا تتوقع الوكالة3 أن تتمكن تونس من الوصول إلى برنامج اقتراض صندوق النقد الدولي في عام 2024، مما يحد من آفاق التمويل الخارجي. ورغم ذلك استطاعت تونس الوفاء بالتزاماتها الخارجية وخلاص ديونها، وإن كان ذلك على حساب قطاعات خدماتية حيوية للمواطن التونسي مثل الحق في الغذاء والصحة والتعليم وباقي الحقوق الأساسية. 

 

مديونية غير منتجه  

من المهم في هذا الجزء من التحليل ذكر بعض الأرقام المتعلقة بصعود حجم المديونية في تونس الذي لم يقتصر على السنوات الأخيرة فقط، بل القضية تعود لسنة 2010،  ففي سنة 2010 كان يمثل 25 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي ووصلت  4قيمته قرابة 80 بالمئة (79.8) سنة 2023. 

وفي هذا السياق قدم صندوق النقد 3 برامج تمويل لتونس (2013، 2016، 2020...) والرابع كانت هنالك مفاوضات حوله سنة 2022 حيث تم التوصل لاتفاق تقني على مستوى الخبراء إلا أنه تم تعليقه بسبب اعتراض الجانب التونسي على الإصلاحات التي اشترطها صندوق النقد الدولي وأبرزها التخلي التدريجي عن منظومة الدعم على المحروقات والمواد الغذائية الأساسية، وخوصصة بعض الشركات العمومية للتخلص من عبئ الرواتب والمديونية على الاقتصاد التونسي. 

 هذا وسبق للأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، نور الدين الطبوبي5، أن اتهم رئيسة الحكومة السابقة، نجلاء بودن، بتعهد حكومتها لصندوق النقد الدوليبالتفويت في وكالة التبغ والوقيد، وبنك الإسكان، وأرصفة من ميناء رادس (الضاحية الجنوبية لتونس العاصمة).   

من بين الإملاءات التي فرضها صندوق النقد الدولي على تونس في مفاوضات القرض التي تحصلت عليه سنة 2016 نجد تطبيق استقلالية البنك المركزي عن الحكومة، وذلك بموجب قانون 35 لسنة 2016. وهو قرار أثار جدلا سياسيا وإعلاميا إثر صدوره على خلفية آثاره المستقبلية على الاقتصاد التونسي. 

وفعلا فقد أثّر قانون استقلالية البنك المركزي بحسب خبراء على استقرار الدينار التونسي مقابل العملات الأجنبية وتحديدا الدولار الأمريكي، في الفترة ما بين بين 2016 و2018 ، حيث تسبب في التخفيض من قيمته، مما ساهم تباعا في ارتفاع خدمة الدين من أقل من 06 بالمائة سنة 2016 إلى 13 بالمائة بعدما تم تعويمه، اليوم وصلت 41 بالمائة من إجمالي النفقات ما يعادل 14.8 بالمائة من الناتج الداخلي الخام6. 

هذه المؤشرات تعزز فرضية الاستدانة غير المنتجة أو غير المجدية -حتى لا نقول كريهة بما أنها لم تعد بالنفع على عموم المواطنين ولم تساهم في انتاج الثروة ولم تشرك مكونات المجتمع في إدارتها. وهي فرضية ناجمة عن عدم تشريك الحكومات المتعاقبة وتحديدا الحكومة الحالية ورئاسة الدولة للمجتمع المدني ومخابر التفكير في صياغة السياسات المالية للدولة وإدارة الدين العمومي بالطريقة الأفضل التي فيها مصلحة لعموم المواطنين والشعب. 

إن التكاليف المتزايدة للاقتراض وتعطله وارتفاع معدّلات التضخم وتعثّر عملية النمو في تونس، فاقم الأداء الاقتصادي المتردّي الذي تسجّله البلاد منذ فترة طويلة. وذلك على الرغم من قدرة السكان على الصمود والتكيّف، يبقى أن الضغوط الاجتماعية آخذةٌ في الازدياد، والاقتصاد عرضة لمخاطر الانهيار في السنوات القادمة. 

طريق مسدود 
الإصلاحات التي قامت بها تونس للحصول على قروض خلال العشرية التي تلت الانتفاضة الشعبية التي حصلت بين 2010-2011 لم تساهم في تخفيف عبء الدين، بل زادته، ولذلك تخشى تونس، على لسان رئيسها، من أن تتسبب إصلاحات صندوق النقد المتعلقة برفع الدعم وتخفيض كتلة الأجور إلى زعزعة الاستقرار الاجتماعي. ولذلك رفض سعيّد شروط الصندوق ووصفها بأنها "إملاءات خارجية7" لن تؤدّي سوى إلى زيادة نسبة الفقر.  

وسبق للرئيس التونسي أن أبلغ المديرة العامة لصندوق النقد الدولي كريستالينا جورجييفا، أن شروط الصندوق لتقديم الدعم المالي لبلده تهدد بإثارة اضطرابات أهلية في إشارة لانتفاضة الخبز 1984 عندما قررت حكومة مزالي رفع الدعم عن الحبوب.    

إلى ذلك، يتبوأ ملف حقوق الانسان في تونس منزلة مهمة في ملف المفاوضات حول القروض مع الدائنين الدوليين وليس صندوق النقد الدولي فقط، فقد سبق رئيس البنك الدولين ديفيد مالباس8، أن أصدر قرار بتعليق العمل مع تونس مؤقتا، وأوقف البنك شراكته القطرية معها، في إطار البرامج المستقبلية من 2023 إلى 2025، بعد أن أثارت تصريحات للرئيس التونسي بشأن المهاجرين من الدول الأفريقية مضايقات عنصرية وأعمال عنف. 

الصعوبات التي اعترضت النظام السياسي التونسي في اقتلاع الموافقة على قروض خارجية وأبرزها قرض الـ1.9 مليار دولار من صندوق النقد الدولي، وما يعنيه ذلك من غلق الأبواب أمام قروض دولية أخرى تشترط موافقه الصندوق لضخ تمويلات إلى تونس، بالإضافة لوضع المالية التونسية الخانق وضغط مدفوعات الميزانية في اتجاهات مختلف داخلية وخارجية، كل تلك العوامل دفعت الحكومة نحو الخيار الأسهل بالنسبة لها والعويص بالنسبة للبنك المركزي والذي يبطن تهديدات للاقتصاد التونسي على المدى القصير والمتوسط، وهو الاقتراض الداخلي من البنك المركزي والبنوك المحلية بهدف خلاص خدمة الديون وذلك بنسبة فائدة تقدر بــ9.79 بالمائة أعلى من الـ تي ام ام TMM الذي حدده البنك المركزي لقروض وتمويلات البنوك الداخلية والذي وصل في أفريل / أبريل 2024  لــ 7.97 بالمائة. 

التهديدات تبرز خصوصا في استخدام الحكومة لاحتياطيات الدولة من العملات الأجنبية9 تدريجيًا، وهو ما يؤدي إلى سحب الودائع وتراجع قيمة العملة الوطنية، واستنزاف القطاع الخاص نتيجة الإجراءات الرامية إلى تغطية خسائر الدولة المالية، ما يقلّص الاستثمارات، ويفضي إلى تراجع النمو الاقتصادي. 

 التقشف والترفيع في الضرائب أو تقليص الخدمات العامة والاستثمارات في البنية التحتية كلها مظاهر لعدم توصل الحكومة لعقد اتفاقات مع الدائنين الدوليين لتمويل الميزانية، وبعث مشاريع استثمارية تشغل الشباب وتخلق حركية استهلاكية عامة تخفف من حدة الركود الاقتصادي في البلاد، في مقابل التوجه نحو خيارات الاستدانة الداخلية التي تزاحم فيها الدولة المستثمرين الخواص في تمويل مشاريعهم، والمواطنين في التمويلات الموجهة للاستهلاك وغيره.  

 

معركة السيادة والتشاركية    

الأزمة الاقتصادية التي تواجهها تونس بسبب العجز المتواتر في الميزانية لا يقتصر حلها في المرحلة الحالية على صندوق النقد الدولي وإنما هنالك كذلك السوق المالية الدولية ومؤسسات مالية أخرى يمكن الاقتراض مثل البنك الأوروبي لإعادة البناء والتنمية والبنك الإفريقي الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي والقروض المقدمة من الدول للدولة المستدينة10، ولكن تحت أية شروط أو إملاءات بعبارة أصح؟ 

 تونس رفضت - خلال مفاوضات قرض الـ 1.9 مليار دولار - الخضوع لشروط صندوق النقد التي اعتبرتها تعجيزية وتمس بالسيادة الوطنية والاستقرار السياسي، لكنها لم تقدم خيارات بديلة لقروض صندوق النقد الدولي، أو إدارة جديدة وتشاركية للديون القائمة بالفعل. ويهدد عدم تسديدها بمخاطر عديدة لا تصّعب فقط من حظوظ الحكومة في الحصول على قروض جديدة، بل وفي تكاليف الأقساط التي ستكون مضطرة لدفعها عاجلا أو آجلا.   

خلال مؤتمر حول إدارة الديون العمومية تم تنظيمه في 10 جويلية / يوليو 2024 بتونس العاصمة من قبل المرصد التونسي للاقتصاد (مخبر للتفكير في السياسات الاقتصادية)، تم خلال النقاشات التنبيه لعدة نقاط مهمة في المفاوضات مع الدائنين الدوليين يجب التفطن إليها لحماية سيادة ومصالح البلدان المستدينة نذكر من بينها: 

* غياب الشفافية في العقود المبرمة. 

* الحق في التقاضي في حالة وجود خلافات حول شروط عقود التداين أو التخلف عن سدادها (والذي لا يتم بقوانين محلية، بل بقوانين خارجية يستغلها الدائنون لمزيد استغلال الدول المستدينة).  

* استعادة البلد المقرض لأغلبية السيولة المالية التي توفرها الديون عبر مشاريع إعادة الإعمار أو البنية التحتية حيث يشترط عقد التداين إنجازها من قبل مقاولين من البلد المقرض، مثلما حصل مع القرض الكريه الذي حصلت عليه كينيا من إيطاليا. 

* تقديم تنازلات سياسية في ملفات معينة من قبيل ملف الديمقراطية وحقوق الانسان وملف المهاجرين جنوب الصحراء وملف الهجرة غير النظامية.  

هذا بالإضافة للعديد من النقاط الأخرى التي من المفترض أن تتنبه إليها البلدان المستدينة خلال المفاوضات مع المقرضين الدوليين. بالمقابل يرى خبراء المرصد أن للدولة دور في حوكمة القروض على جميع مراحل تحصيلها وصرفها وإدارتها من خلال مقاربة تشاركية تحاورية تجمع السلطة السياسية بالمجتمع المدني والخبراء المستقلين للخروج برؤية شاملة لملف الديون على قاعدة الديمقراطية، ولكن كذلك على قاعدة الرؤية النسوية لقضية الديون.   

هنالك اتفاق بين الخبراء والمنظمات المعنية بالديون في تونس وأفريقيا حول عدة مسائل أبرزها اتباع سياسة الحوكمة في إدارة ملف الديون، والشفافية عندما يتعلق الأمر بنشر البيانات المتعلقة بالقروض   والنفاذ للمعلومة للتدقيق في الديون من قبل المواطنين ومن يمثلهم خاصة في ظل وجود الديون الكريهة وغير المشروعة، وتكوين مرصد يتابع فيه المجتمع المدني كيف تصرف القروض.  

بالتوازي مع المسائل المتعلقة بالحوكمة والشفافية ودمقرطة مسالك جلب القروض وصرفها، من المفترض أن تتبع تونس سياسات اقتصادية بديلة تؤسس لمنوال تنمية حقيقي وصناعة وطنية ذات قيمة مضافة تحت سقف إطار قانوني موحد وشامل للقروض. هذا بالإضافة إلى استعادة دور البنك المركزي في هندسة السياسة النقدية وتحقيق استقرار الأسعار والتحكم في التضخم في مواجهة التقلبات الاقتصادية. عندها يمكن أن تحقق تونس ودول الجنوب -التي تشاركها نفسه الهواجس والتحديات في علاقة بالسيادة المالية والاقتصادية -أهدافها في الانتقال الطاقي وتسديد ديونها وتحقيق انتعاشه اقتصادية حقيقية طال انتظارها.   

 

 

المصادر:  

  1. تونس مطالبة بسداد ديون بحوالي 4 مليار دولار خلال النصف الثاني من العام الجاري، جريدة الصباح، 10 جويلية 2024. 

 

  1. Tunisia, Rating Report, Fitch  Ratings Agency, 14 Dec, 2023 

 

  1. نفس المصدر السابق 

  1. احلام الباشا، قدرت قيمته ب126.5 مليار دينار: نسبة الدين العمومي تتراجع الى 79.8% من الناتج المحلي الاجمالي مع موفى 2023، 02/05/2024   

 

  1. مهدي الزغلامي، خوصصة المؤسسات العمومية بين رفض النقابات وإذعان الحكومة لصندوق النقد الدولي، iboursa 11 ، نوفمبر 2022 

 

  1. Sahar Fdhila, Loi de finances 2024 : Du discours aux réalités des politiques, Observatoire Tunisien de l’Economie, 31/01/2024،  

  1. Tunisia's President Kais Saied rejects IMF 'diktatsAfricanews، 07/04/2023 

  1. Andrea Shalal and Angus Mcdowall, World Bank says pausing future Tunisia work amid reports of racist violence، Reuters, March 6, 2023 

 

  1. حمزة المؤدب، تراكم العوامل المؤدّية إلى الأزمة: تونس بين المشاكل الحالية والمسارات المستقبلية، مركز مالكولم كارينغي للشرق الأوسط. 26 فبراير 2024 

 

  1. Chafik Ben Rouine, Sortir du FMI Partie 1: Diversifier, 17 février 2023.  

 

 

 

بدر السلام الطرابلسي